فصل: من فوائد الجصاص في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الجصاص في الآيات السابقة:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} رُوِيَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَقال تعالى: {مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} لِأَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَسْجِدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ وَقَالَ: الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ نَفْسُهُ فَأُسْرِيَ بِهِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} قِيلَ: مَعْنَاهُ فَإِلَيْهَا، كَمَا يُقَالُ: أَحْسَنَ إلَى نَفْسِهِ وَأَسَاءَ إلَى نَفْسِهِ وَحُرُوفُ الْإِضَافَةِ يَقَعُ بَعْضُهَا مَوْضِعَ بَعْضٍ إذَا تَقَارَبَتْ، وَقال تعالى: {بِأَنَّ رَبَّك أَوْحَى لَهَا} وَالْمَعْنَى: أَوْحَى إلَيْهَا.
قَوْله تَعَالَى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} يَعْنِي جَعَلْنَاهَا لَا يُبْصَرُ بِهَا كَمَا لَا يُبْصَرُ بِمَا يُمْحَى مِنْ الْكِتَابِ وَهُوَ فِي نِهَايَةِ الْبَلَاغَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ: السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَكُلَّ إنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}.
قِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ بِهِ عَمَلَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الطَّائِرِ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ ذَاتِ الْيَمِينِ فَيَتَبَرَّكُ بِهِ وَالطَّائِرُ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ ذَاتِ الشِّمَالِ فَيُتَشَاءَمُ بِهِ، فَجَعَلَ الطَّائِرَ اسْمًا لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيعًا فَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِ دُونَ ذِكْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِيَالِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ فِي عُنُقِهِ كَالطَّوْقِ الَّذِي يُحِيطُ بِهِ وَيُلَازِمُهُ مُبَالَغَةً فِي الْوَعْظِ وَالتَّحْذِيرِ وَاسْتِدْعَاءً إلَى الصَّلَاحِ وَزَجْرًا عَنْ الْفَسَادِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}
قِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ السَّمْعَ دُونَ الْعَقْلِ إلَّا بِقِيَامِ حُجَّةِ السَّمْعِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَسْمَعْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الشَّرَائِعِ السَّمْعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا إذَا عَلِمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ حُجَّةِ السَّمْعِ عَلَيْهِ، وَبِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّةُ فِي قِصَّةِ أَهْلِ قَبَا حِينَ أَتَاهُمْ آتٍ أَنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ وَلَمْ يَسْتَأْنِفُوا لِفَقْدِ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِنَسْخِ الْقِبْلَةِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيمَا تَرَكَ، قَالُوا: وَلَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِفَرْضِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ قِيَامِ حُجَّةِ السَّمْعِ عَلَيْهِ، وَحُجَّةُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ قَدْ رَأَى النَّاسَ يُصَلُّونَ فِي الْمَسَاجِدِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَذَلِكَ دُعَاءٌ إلَيْهَا فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَمُخَاطَبَةِ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهُ بِلُزُومِ فَرْضِهَا، فَلَا يُسْقِطُهَا عَنْهُ تَضْيِيعُهُ إيَّاهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي:
أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ حُجَّةِ السَّمْعِ بِالرَّسُولِ، وَأَنَّ مُخَالَفَةَ مُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعُقُولِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ لَا تُوجِبُ فِي حُكْمِ اللَّهِ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} قَالَ سَعِيدٌ: أُمِرُوا بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَقُولُ لِلْحَيِّ إذَا كَثُرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ أُمِرَ بَنُو فُلَانٍ.
وَعَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ: {أَمَرْنَا} أَكْثَرْنَا.
وَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا أَنَّا إذَا كَانَ فِي مَعْلُومِنَا إهْلَاكُ قَرْيَةٍ أَكْثَرْنَا مُتْرَفِيهَا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى وُجُودَ الْإِرَادَةِ مِنْهُ لِإِهْلَاكِهِمْ قَبْلَ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ عُقُوبَةٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقِبَ مَنْ لَمْ يَعْصِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} لَيْسَ الْمَعْنَى وُجُودَ الْإِرَادَةِ مِنْهُ وَإِنَّمَا هُوَ أَنَّهُ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ سَيَنْقَضُّ.
وَخَصَّ الْمُتْرَفِينَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ الرُّؤَسَاءُ وَمَنْ عَدَاهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ، وَكَمَا أَمَرَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمُهُ تَبَعٌ لَهُمْ، وَكَمَا كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قَيْصَرَ: «أَسْلِمْ وَإِلَّا فَعَلَيْك إثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ» وَكَتَبَ إلَى كَسْرَى: «فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ فَعَلَيْك إثْمُ الْأَكَّارِينَ».
قَوْله تَعَالَى: {مِنْ الْقُرُونِ} رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: أَنَّ الْقَرْنَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْمَازِنِيُّ: مِائَةُ سَنَةٍ.
وَقِيلَ: الْقَرْنُ أَرْبَعُونَ سَنَةً.
قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} الْعَاجِلَةُ: الدُّنْيَا، كَقَوْلِهِ: {كَلًّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ كَانَ هَمُّهُ مَقْصُورًا عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ عَجَّلَ لَهُ مِنْهَا مَا يُرِيدُ، فَعَلَّقَ مَا يُؤْتِيهِ مِنْهَا بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} فَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى فِي الْمُعْطَى، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ مِقْدَارَهُ وَجِنْسَهُ وَإِدَامَتَهُ أَوْ قَطْعَهُ، ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ اسْتِثْنَاءً آخَرَ فَقَالَ: {لِمَنْ نُرِيدُ} فَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى فِي الْمُعْطِينَ وَأَنَّهُ لَا يُعْطَى الْجَمِيعُ مِمَّنْ يَسْعَى لِلدُّنْيَا بَلْ يُعْطِي مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَيَحْرِمُ مَنْ شَاءَ، فَأَدْخَلَ عَلَى إرَادَةِ الْعَاجِلَةِ فِي إعْطَاءِ الْمُرِيدِ مِنْهَا اسْتِثْنَاءَيْنِ لِئَلَّا يَثِقَ الطَّالِبُونَ لِلدُّنْيَا بِأَنَّهُمْ لَا مَحَالَةَ سَيَنَالُونَ بِسَعْيِهِمْ مَا يُرِيدُونَ.
ثُمَّ قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} فَلَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا بَعْدَ وُقُوعِ السَّعْيِ مِنْهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَشَرَطَ فِي السَّعْيِ لِلْآخِرَةِ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا وَمُرِيدًا لِثَوَابِهَا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ثَلَاثُ خِلَالٍ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ: نِيَّةٌ صَحِيحَةٌ وَإِيمَان صَادِقٌ وَعَمَلٌ مُصِيبٌ، قَالَ: فَقُلْت: عَمَّنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فَعَلَّقَ سَعْيَ الْآخِرَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ لَهُ بِأَوْصَافٍ وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي الْمَقْصُودِ شَيْئًا وَلَمْ يُخَصِّصْ إرَادَةَ الْعَاجِلَةِ بِوَصْفٍ بَلْ أَطْلَقَهَا وَاسْتَثْنَى فِي الْعَطِيَّةِ وَالْمُعْطَى مَا قَدَّمْنَا.
قَوْله تَعَالَى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّك} قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَرِيدِ الْعَاجِلَةِ وَالسَّاعِي لِلْآخِرَةِ وَحُكْمُ مَا يَنَالُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ نِعَمَهُ جَلَّ وَتَعَالَى مَبْسُوطَةٌ عَلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهَا خَاصَّةٌ لِلْمُتَّقِينَ فِي الْآخِرَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُولَةِ وَالْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَصِحَّةِ الْجِسْمِ وَالْعَافِيَةِ إلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ النِّعَمِ شَامِلَةٌ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ؟ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآيات:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
فِي {سُبْحَانَ}: وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ.
وَمَنَعَهُ عِنْدَهُمَا مِنْ الصَّرْفِ كَوْنُهُ مَعْرِفَةً فِي آخِرِهِ زَائِدَانِ.
وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ يَصْرِفُهُ وَيُصَرِّفُهُ.
الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى النِّدَاءِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ مَنْصُوبٌ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَهُ.
الرَّابِعُ: أَنَّهَا كَلِمَةٌ رَضِيَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ومَعْنَاهَا عِنْدَهُمْ بَرَاءَةُ اللَّهِ مِنْ السُّوءِ، وَتَنْزِيهُ اللَّهِ مِنْهُ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ** سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ

المسألة الثانية:
أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فَلِأَنَّهُ جَارٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَصَادِرِ، فَكَثِيرًا مَا يَأْتِي عَلَى فُعْلَانَ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ اسْمٌ وُضِعَ لِلْمَصْدَرِ فَلِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ لَا يَجْرِي عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ سَبَّحَ.
وأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِأَنَّهُ مُنَادًى فَإِنَّهُ يُنَادَى فِيهِ بِالْمَعْرِفَةِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ، وَهُوَ كَلَامٌ جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ دَعْوَى فَارِغَةٍ لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، ثُمَّ لَا يَعْصِمُهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يُقَالَ لَهُ: هَلْ هُوَ اسْمٌ أَوْ مَصْدَرٌ؟ وَمَا زَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُجْرِي فِي الْمَنْقُولِ طَلْقَهُ حَتَّى إذَا جَاءَ الْمَعْقُولُ عَقَلَهُ الْعِيُّ وَأَغْلَقَهُ.
وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَرَفَةَ جُزْءًا قَرَأْنَاهُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ فِيهِ عَنْ التَّقْصِيرِ سَلَامٌ، وَالْقَدْرُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِيهِ يَكْفِي، فَلْيَأْخُذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ وَيَكْتَفِي.
المسألة الثالثة:
قَوْلُهُ: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ}: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَوْ كَانَ لِلنَّبِيِّ اسْمٌ أَشْرَفَ مِنْهُ لَسَمَّاهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَلِيَّةِ بِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ تُنْشِدُ الصُّوفِيَّةُ: يَا قَوْمِ قَلْبِي عِنْدَ زَهْرَاءَ يَعْرِفُهَا السَّامِعُ وَالرَّائِي لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهَا فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي وَقَالَ الْأُسْتَاذُ جَمَالُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ: لَمَّا رَفَعَهُ إلَى حَضْرَتِهِ السَّنِيَّةِ، وَأَرْقَاهُ فَوْقَ الْكَوَاكِبِ الْعُلْوِيَّةِ، أَلْزَمهُ اسْمَ الْعُبُودِيَّةِ لَهُ، تَوَاضُعًا لِلْإِلَهِيَّةِ.
المسألة الرابعة:
قَضَى اللَّهُ بِحِكْمَتِهِ وَحُكْمُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ النَّاسُ، هَلْ أُسْرِيَ بِجَسَدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بِرُوحِهِ؟ وَلَوْلَا مَشِيئَةُ رَبِّنَا السَّابِقَةُ بِالِاخْتِلَافِ لَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ أَبَيْنَ عِنْدَ الْإِنْصَافِ؛ فَإِنَّ الْمُنْكِرَ لِذَلِكَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُلْحِدًا يُنْكِرُ الْقُدْرَةَ، وَيَرَى أَنَّ الثَّقِيلَ لَا يَصْعَدُ عُلُوًّا، وَطَبْعُهُ اسْتِفَالٌ فَمَا بَالُهُ يَتَكَلَّمُ مَعَنَا فِي هَذَا الْفَرْعِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلْأَصْلِ؛ وَهُوَ وُجُودُ الْإِلَهِ وَقُدْرَتُهُ، وَأَنَّهُ يُصَرِّفُ الْأَشْيَاءَ بِالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ، لَا بِالطَّبِيعَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُنْكِرُ مِنْ أَغْبِيَاءِ الْمِلَّةِ يُقِرُّ مَعَنَا بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِلْمِ، وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصْرِيفِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّقْدِيرِ، فَيُقَالُ لَهُ: وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ ارْتِقَاءِ النَّبِيِّ فِي الْهَوَاءِ بِقُدْرَةِ خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ؟ فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ.
قُلْنَا لَهُ: قَدْ وَرَدَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ عَلَى لِسَانِ كُلِّ فَرِيقٍ، مِنْهُمْ أَبُو ذَرٍّ؛ قَالَ أَنَسٌ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي، وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ قَالَ: هَلْ مَعَك أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَعِي مُحَمَّدٌ فَقَالَ: أُرْسِلَ إلَيْهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالِابْنِ الصَّالِحِ قُلْت: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَم، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ عَنْ شِمَالِهِ بَكَى ثُمَّ عَرَجَ بِي إلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ الْأَوَّلُ، فَفَتَحَ قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَاءِ آدَمَ، وَإِدْرِيسَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَإِبْرَاهِيمَ» وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيم فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ.
قَالَ أَنَسٌ: «فَلَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ جِبْرِيلَ بِإِدْرِيسَ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالْأَخِ الصَّالِحِ فَقُلْت: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إدْرِيسُ ثُمَّ مَرَرْت بِمُوسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ قُلْت: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: مُوسَى ثُمَّ مَرَرْت بِعِيسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ قُلْت: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عِيسَى، ثُمَّ مَرَرْت بِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ قُلْت: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: إبْرَاهِيمُ».